• عدد المراجعات :
  • 6358
  • 3/2/2014
  • تاريخ :

الفصاحة الزينبيّة

حضرت زينب

إذا كانت النصوص الأدبية لا تتعدّى حدود الوصف والمحسّنات البديعية، ويكاد الكثير منها يخلو من المحتوى الرفيع والمعنى الشامخ والفكرة الراشدة، فيبدو فارغاً من الذوق أحياناً، فإنَّ بيانات أهل البيت عليهم السّلام ـ فضلاً عن بلاغتها وعلوّ فصاحتها ـ قد تضمّنت المعاني الجليلة من الاعتقادات الحقة والوصايا الأخلاقية، والدعوات الموجّهة إلى الخير والجهاد، معبِّرة عن أهداف الشريعة، وعن شجاعة المتحدّثين بها. فمن أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكّة المكرّمة وخطب أمير المۆمنين عليه السّلام، وخطبتَي مولاتنا فاطمة عليها السّلام.. إلى خطب أمامنا الحسن وأمامنا الحسين سلام الله عليهما.. تأتي هذه السلسلة الشريفة لتُعرب عن حكم الإسلام في صِيَغ هُنّ غُرر الحكم ولوامعُه، ودرر الكَلِم وجوامعُه.

وزينب العقيلة عليها السّلام هي وريثة هذا البيت الطاهر، حتّى جاء في إحدى زياراتها: « السّلام على المولودة في معقل العصمة والتُّقى، ومهبط الوحي والهُدى، والموروثة عظيمَ الفضل والندى. سلام على المرأة الصالحة، والمجاهدة الناصحة، والحرّة الأبيّة، واللّبوة الطالبية، والمعجزة المحمّدية، والذخيرة الحيدرية، والوديعة الفاطمية ».

قال الشيخ جعفر النقديّ رضوان الله تعالى عليه:

« في الطراز المُذهَّب، عن ناسخ التواريخ أنّه قال: من معجزات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه كان يضع لسانه في فم أولاد فاطمة الرضّع فيُغنيهم عن اللبن. قال: والأولاد الرضّع يشمل الذكور والإناث، فزينب وأمّ كلثوم تشاركان الحسنَين عليهما السّلام في هذه الفضيلة.

ومن المعلوم أنَّ من الْتَقَمَ لسانَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ عقلِ العقول ووارثِ علوم الأولين والآخرين ـ وارتوى بمصّه، كيف يحصل على المراتب العالية، وكيف يأخذ مقامات العلم والشرف » (1).

كانت فصاحة سيدتنا زينب تجمع ـ إلى قوّة العبارة وحسن الاسلوب ـ عنصرين شريفين: المعرفة والشجاعة، لذا هيمنت كلماتُها على السامعين وجعلتهم حيارى بمَ يُجيبون، والأمثلة في ذلك وافرة:

• قال حذيم الاسدي: « لم أرَ واللهِ خَفِرةً قطّ أنطقَ منها، كأنّها تنطق وتُفْرغ عن لسان عليّ عليه السّلام، وقد أشارت إلى الناس ( أي أهل الكوفة بعد فاجعة كربلاء وقد جيء بها سبيّة ) بأن أنصتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الاجراس، ثمّ قالت: أما بعدُ يا أهل الكوفة، يا أهل الختل، والغدر والخذل، أتبكون.. فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الزفرة.. هل فيكم إلاّ الصلف(2)، والعجب، والشنف(3)، والكذب، وملق الإماء، وغمز الأعداء(4)... قد ذهبتم بعارها، ومُنيتُم بشَنارها، ولن ترحضوها(5) أبدا، وأنّى ترحضون قتلَ سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ؟! أتدرون ـ وَيْلَكم ـ أيَّ كبِدٍ لمحمّد صلّى الله عليه وآله فريتُم ؟ وأيَّ حُرمة له هتكتم ؟ وأيَّ دم له سفكتم ؟! لقد جئتم بها شوهاءَ(6) صلعاء، عنقاءَ سوداء، فقماء خرقاء(7).. ثمّ أنشأت تقول:

ماذا تقولون إذ قـال النـبيُّ لكـم              ماذا صنعتم وأنـتم آخـر الأمـمِ

بأهـلِ بيتـي وأولادي وتكرمتـي             منهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بـدمِ

ما كان ذاك جزائي إذ نصحتُ لكم                      أن تُخْلفوني بسوءٍ في ذوي رَحِمي

قال حذيم: فرأيت الناس حيارى قد ردّوا أيديَهم في أفواههم، فالتفتُّ إلى شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلّت لحيته من البكاء وهو يقول: بأبي وأمي، كهولُهم خير كهول، ونساۆُهم خيرُ نساء، وشبابهم خير شباب، ونسلُهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم. ثمّ أنشد:

كهولُـكم خيـرُ الكـهول، ونسلُـكم             إذا عُدّ نسلٌ لا يبور ولا يخزى(8)

وحين جيء بالسبايا إلى قصر ابن زياد أخذ يستعرض عائلة رسول الله صلّى الله عليه وآله بالسۆال عن أفرادها، ثمّ سأل: مَن هذه المنحازة عن النساء ؟ فقيل: زينب بنتُ عليّ، فقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأكذب أُحدوثتكم. فأجابته سلام الله عليها:

« الحمدُ لله الذي أكرمنا بنبيه محمّد صلّى الله عليه وآله، وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنّما يُفتَضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا » (9). قال ابن زياد: كيف رأيتِ فِعلَ الله بأهل بيتك ؟ قالت: « ما رأيت إلاّ جميلا، هۆلاء قوم كتب الله عليهم القتلَ فبرزوا(10) إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتُخاصَم. فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة !»(11). فغضب ابن زياد واستشاط من كلامها معه في ذلك المحتشد(12).

وحينما جيء بالسبايا إلى الشام، وأُدخلن إلى قصر يزيد.. سمعت زينب عليها السّلام يزيد يتمثّل بأبيات ابن الزِّبَعرى:

لَعبتْ هاشـمُ بالمُـلْكِ فـلا                     خبرٌ جاء ولا وحـيٌ نـزلْ

لستُ من خِنْدَفَ إنْ لم أنتقمْ                  من بني أحمدَ ما كان فعـلْ

فانبرت له العقيلة زينب عليها السّلام وألقت خطبتها المعروفة في مجلسه، وكان منها: « أمِن العدل يا ابن الطلقاء.. تخديرُك حرائرَك وإماءَك، وسوقُك بنات رسول الله سبايا ؟!.. وكيف يُرتجى مراقبة مَن لَفَظَ فوه أكبادَ الأزكياء(13)، ونبت لحمُه من دماء الشهداء.. فوالله ما فريتَ إلاّ جِلْدَك، ولا حززتَ إلاّ لحمك، ولَتَرِدنّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله بما تحمَّلت من سفك دماء ذرّيته، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته.. ألا فالعجبُ كلّ العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء... فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذِكرَنا، ولا تُميتُ وحينا، ولا يُرحَض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فَنَد، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بَدَد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.. ».

فقال يزيد:

يا صيحةً تُحـمَدُ مـن صوائـحِ                ما أهونَ النَّوحَ على النوائحِ(14)

المصادر:

1 ـ زينب الكبرى 42.

2 ـ المدح بما ليس في الممدوح.

3 ـ البغض بغير حق.

4 ـ الطعن.

5 ـ لن تغسلوها.

6 ـ قبيحة.

7 ـ حمقاء.

8 ـ الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسي 31:2.

9 ـ أي أنتم.

10 ـ لعلّ المعنى أنّ الله كلفهم بالجهاد فلبَّوا داعيَ الله « سبحانه ».

11 ـ وكانت معروفة بانحرافها.

12 ـ اللهوف في قتلى الطفوف، لابن طاووس 90.

13 ـ وهي جدّته هند التي لفظت كبد حمزة رضوان الله عليه بعد شهادته في أُحد.

14 ـ الاحتجاج 34:2.


بعض کرامات السيدة زينب (ع)

دور السيدة زينب (ع) في النهضة الفكرية

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)